فصل: ومن المؤلفات التاريخية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك ***


المجلد الأول

مقدمة‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المنعوت بجميل الصفات‏,‏ وصلى الله على سيدنا محمد أشرف الكائنات والمبعوث بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وعلى آله وصحبه الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن بيضة الدين حتى رفع الله بهم مناره، وأعلى كلمته وجعله دينه المرضيّ وطريقه المستقيم‏.‏

وبعد‏,‏ فهذا ‏"‏توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك‏"‏‏.‏

للمرادي المعروف بابن أم قاسم المتوفى عام 749هـ‏.‏

وفي هذا الشرح ظهرت شخصية ابن أم قاسم واضحة جلية دلت على قدرته وحصافة رأيه وتجلت فيه مواهبه وأفكاره‏.‏

ولا شك أنه شرح أوفى على الغاية ويمتاز بالدقة والسهولة، وإيضاحه لآراء النحاة ومذاهبهم‏.‏

وقد أرشد المؤلفين من بعده؛ لأن عنايته كانت متجهة إلى إيضاح ألفية ابن مالك وتبيان مقصودها‏.‏

فكان هذا الشرح مددا لمن بعده من شراح الألفية ومصدرا وثيقا لدى النحويين، وقد استمد منه المؤلفون خير ما يؤلفون‏.‏

وقد حققت من أول هذا الكتاب إلى باب الإضافة‏,‏ نلت بهذا القسم درجة العالمية ‏"‏الدكتوراه‏"‏ مع مرتبة الشرف الأولى‏.‏

ثم حققت باقي الكتاب، وجعلته قسمين‏:‏

القسم الأول‏:‏ الدراسة

ويقوم على ثلاثة أبواب‏:‏

الباب الأول‏:‏ عصر ابن أم قاسم، ويشتمل على فصلين‏:‏

الفصل الأول‏:‏ تحدثت فيه عن مصر في العصر المملوكي، ونظم الحكم والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والحركة العلمية‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ تحدثت فيه عن مصر وتربتها الطيبة وسماحة أهلها، وعن النحو والنحاة، ودور العلماء حينما رأوا إقفار البلاد من الكتب العربية‏.‏

الباب الثاني‏:‏ حياة ابن مالك وابن أم قاسم ويشتمل على أربعة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ تناولت فيه حياة ابن مالك صاحب الألفية وبعض شراحها وأصحاب الحواشي‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ تناولت فيه التعريف بابن أم قاسم‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ تحدثت فيه عن شيوخ ابن أم قاسم وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ تناولت فيه الذين تأثروا به ودرسوا كتبه ونقلوا عنها‏.‏

الباب الثالث‏:‏ موقف المؤلف من ابن مالك وما يعتمد عليه، ويضم أربعة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ عرضت فيه مسائل من نقوله عن ابن مالك ودفع الاعتراضات الواردة عليه‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ سقت مسائل تفيد أنه كان يعتمد على السماع أكثر من القياس، ويميل إلى البصريين أكثر من الكوفيين‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ دونت فيه أمثلة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأشعار العرب وأقوالهم‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ ذكرت فيه مسائل تبين موقفه من ألفية ابن مالك‏,‏ وألفية ابن معط‏.‏

القسم الثاني‏:‏ التحقيق

ويحتوي على تحقيق ‏"‏توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك‏"‏ للمرادي المعروف بابن أم قاسم‏.‏

فقد حققت هذا الكتاب ووثقته وضبطت شواهده وشرحتها ونسبتها إلى أصحابها، وخرجت الأحاديث وشرحت ما صعب منها، وعرفت بالأعلام التي وردت في النص، وعلقت عليه، وقد أبرزت محاسنه وأظهرت مناقبه، ولاحظت أن المرادي في شرحه اعتمد كثيرا على ابن مالك‏.‏ وأعتقد أن المكتبة العربية في أمسّ الحاجة إلى هذا الكتاب الذي يعد من أهم المراجع في إحياء التراث العربي‏.‏

بذلك أكون قد أضفت شيئا جديدا تعتز به المكتبة العربية‏.‏

والله أسأل أن يسدد خطانا على طريق الحق والصواب، وأن يكون عملي مثمرا نافعا، إنه سميع مجيب الدعاء‏.‏

والحمد لله رب العالمين‏.‏

أ‏.‏ د/ عبد الرحمن عليّ سليمان

عميد كلية البنات الإسلامية

جامعة الأزهر‏,‏ أسيوط

القسم الأول‏:‏ الدراسة

الباب الأول‏:‏ التعريف بالمرادي المعروف بابن أم قاسم

الفصل الأول‏:‏ العصر المملوكي

‏(‏مصر في عهد المماليك 648هـ-923هـ ‏"‏250م- 1517م‏)‏‏:‏

نقصد بهذا العصر الفترة التي حكم فيها سلاطين المماليك في مصر، منذ انقضاء عهد الأيوبيين عام 648هـ إلى أن فتحها الأتراك العثمانيون عام 923هـ‏.‏

ولا نقصد هنا استيعابا تاريخيا للعصر المذكور وتفصيلا وافيا لحوادثه العامة، فإن ذلك مما يضيق به هنا‏.‏

لفظ مملوك‏:‏

لفظ مملوك كان معناه في الأصل الرقيق الأبيض الذكر، والشرقيون في أوج عزهم -أي‏:‏ في عهد صلاح الدين- هم أول من أدخل المماليك إلى مصر‏,‏ وقد كانوا -بادئ بدء- ميليشيا ذليلة ثم تحولوا إلى طبقة عسكرية، وأخيرا أصبحوا الطبقة الحاكمة‏.‏

ولقد بلغ من قوة المماليك في سنة 1250م أنهم اغتالوا أحد السلاطين الفاطميين، وتولوا بعده ترشيح السلاطين من بين زعمائهم‏.‏

أصل المماليك‏:‏

كان الرق منتشرا في العصور الوسطى، وكانت تجلب الغلمان المرد والفتيان الحسان من بلادهم البعيدة إلى أسواق الرقيق، حيث توجد الرغبة في اقتنائهم، وحيث يتنافس في ذلك المتنافسون للخدمة أو للهو‏.‏

وطريقة جلبهم لهذه البضائع، السرقة والخطف، يسرقون الغلمان ويخطفون العذارى من أهلهم ثم يستحلون بيعهم للناس، ويستحل الناس شراءهم‏.‏

ولم يبل بالرق شعب دون آخر أو جنس دون غيره فقد كان من الأرقاء التركي والجركسي والرومي والحبشي والفارسي وغيرهم، وأروج ما كانت تجارتهم في الأجناس التركية والجركسية لما تتصف به من جمال وطيب مجلس‏.‏

وأول من استخدمهم وجلبهم إلى مصر وجعلهم عمدة جيشه هو ‏"‏أحمد بن طولون‏"‏ قال القلقشندي في صبح الأعشى الجزء الثالث في الكلام عمن ولي مصر ملكا قبل الفاطميين‏:‏ ‏"‏وأولهم أحمد بن طولون‏.‏‏.‏‏.‏ وهو أول من جلب المماليك الأتراك إلى الديار المصرية واستخدمهم في عسكرها‏"‏‏.‏

انتقال الحكم من الأيوبيين إلى المماليك‏:‏

أخذ عدد المماليك يتكاثر في مصر زمن الأيوبيين، وأخذ نفوذهم يزداد ويعظم، وقد قوي بأسهم في عهد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي‏.‏

وقد انتصروا على الفرنجة في موقعة ‏"‏فارسكور‏"‏ بمعاونة الفلاحين‏.‏ وهذه الموقعة كانت سببا مباشرا في توطيد سلطة المماليك وظهور قوتهم، وظلوا بعدها يتلمسون الفرصة للوثوب العملي إلى عرش البلاد، وقد أتيحت لهم هذه الفرصة عندما أساء لهم ‏"‏توران شاه‏"‏ وإلى ‏"‏شجرة الدر‏"‏ معا، وما زالوا يأتمرون حتى قتلوه، وملكوا عليهم من بعده ‏"‏شجرة الدر‏"‏ زوجة أبيه ثم ضربت ‏"‏شجرة الدر‏"‏ الحجاب على نفسها ورأت أخيرا بثاقب نظرها وبعيد رأيها أن تخلع نفسها عن الملك بعد أن مكثت ثمانين يوما‏,‏ فتمت المشورة بسلطنة ‏"‏عز الدين أيبك‏"‏ ثم تزوج ‏"‏شجرة الدر‏"‏ ليكون واصلة بالبيت المالك القديم، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 648هـ ولقبوه بالملك المعز، فكان أول سلاطين المماليك بالديار المصرية‏.‏

دولتا المماليك 648هـ-923هـ‏:‏

واتفق المؤرخون على تقسيم دولة المماليك في مصر إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ الدولة المملوكية الأولى المعروفة باسم دولة الأتراك أو البحرية، لأن معظم سلاطينها من الأتراك الذين أسكنهم الملك الصالح ‏"‏جزيرة الروضة‏"‏ وجعل منهم فرقة البحرية الصالحية، وامتد عصر هذه الدولة أكثر من مائة عام ‏"‏250-1382م‏"‏‏.‏

وامتاز بما ظهر من سلاطين أقوياء أمثال ‏"‏قطز، والظاهر بيبرس‏"‏ وغيرهما‏.‏

أما القسم الثاني‏:‏ فهو الدولة المملوكية الثانية التي أطلق عليها اسم دولة الجراكسة أو المماليك البرجية، لأن معظم سلاطينها من الجراكسة الذين اشتراهم السلطان قلاوون، وأنزلهم أبراج قلعة الجبل، وألف منهم فرقة الحرس الخاص‏.‏

وامتد حكم هذه الدولة إلى سنة 1517م وهي السنة التي استولى فيها العثمانيون على مصر‏.‏

حضارة مصر في عهد المماليك‏:‏

نظام الحكم‏:‏

حينما انتقل الحكم إلى المماليك وتلقب المماليك بلقب السلاطين‏,‏ بقيت القلعة مركز الحكم في البلاد حتى أواخر هذا العهد، وتأثرت أنظمة الحكم زمن المماليك بمن قبلهم‏.‏

فمن ذلك‏:‏

تعميم نظام الإقطاع في مصر‏,‏ وكان الإقطاع مكافأة لكبار رجال الدولة من الأمراء والقواد بدل الرواتب والأعطية‏.‏

ومع هذا حاول سلطان من السلاطين أن يجعل السلطنة في ابنه من بعده خضوعا لعاطفة الأبوة، غير أن هذا لم يكن إلا وسيلة مؤقتة حتى يتيسر للأمراء شيء من الإجماع على سلطنة واحدة من كبارهم، فإذا تم ذلك خلع الأمراء ابن سلطانهم القديم وأرسلوه إلى أمه أو نفوه، وترتب على هذا من التولية والعزل في السلطنة، مما أدى إلى اضطراب الأحوال في كثير من الأحيان‏.‏

الأحوال الاجتماعية‏:‏

وفد إلى مصر كثير من المماليك من مختلف الأجناس الآسيوية والأوربية

حتى صار منهم التركي والجركسي واليوناني والصيني والروسي، واعتزت هذه الجماعات المملوكية الوافدة على مصر بما صار لأفرادها من أنواع القوة والنفوذ والسلطان والعنف‏.‏

وعاش المماليك عيشة النعيم متمتعين بخيرات البلاد‏,‏ وكان كل أمير مملوكي عبارة عن سلطان من حيث إقامته في قصر وإحاطته بالأتباع واتخاذه موظفين له‏.‏

وكون المماليك طبقة منفصلة تمام الانفصال عن سائر سكان سلطنتهم، ولم يكن كثير منهم متقنا للغة العربية، وفضل بعضهم التكلم بالتركية‏.‏

ومع وجود الطبقات والانفصال غلبت مظاهر القناعة على أهل البلاد بسبب ما أفادوا من أجور ومكافآت مقابل ما قاموا به للمماليك أرباب السيف وللموظفين أرباب القلم من صناعة الأقمشة والملابس والأواني والأطعمة كما أكثر المماليك من إنشاء التكايا والسبل والحمامات الشعبية‏.‏

الأحوال الاقتصادية‏:‏

الزراعة‏:‏ اهتم السلاطين بالزراعة فشقوا الترع وحفروا القنوات وقووا الجسور وأقاموا القناطر والسدود‏,‏ غير أن اهتمامهم بالزراعة اقتصر في جملته على استغلال الأرض دون مصلحة الفلاح‏.‏

الصناعة‏:‏ وتقدمت الصناعة في هذا العصر، ويصف المقريزي أحد الأسواق المصرية زمن المماليك بأنه ‏"‏معمور الجانب من أوله إلى آخره بالحوانيت، ففي أوله كثير من البزازين الذي يبيعون ثياب الكتان من الخام‏"‏‏.‏

التجارة‏:‏ اتسعت التجارة في مصر إلى حد لم تبلغه قبلا، وكانت الإسكندرية مركزا لتجارة الأوربيين، كما كانت قوص مركزا لتجارة المصريين، واعتمدت حكومة المماليك على هذه التجارة وكسبت من ورائها أموالا طائلة، هي أحد أسرار عظمة الدولة المملوكية‏.‏

ثم اكتشف البرتغال طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند، وحلت لشبونة محل الإسكندرية، فانقطع ذلك المصدر الذي استمدت منه دولة المماليك معظم ثروتها‏.‏

العلوم والفنون‏:‏ شهد العصر المملوكي ما لم يشهده عصر إسلامي سابق من حركة واسعة في البناء والتعمير، فامتلأت مصر بالمساجد والمدارس والمنشآت العسكرية والمدافن التي لا تزال معظم آثارها قائمة في القاهرة والإسكندرية، ومنها جامع الظاهر بيبرس وجامع الناصر محمد بالقلعة، ومدرسة السلطان حسن بالقاهرة، وقلعة قايتباي بالإسكندرية‏.‏

الحركة العلمية‏:‏

انتقال النشاط العلمي إلى مصر والقاهرة‏:‏

تلفت المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يبحثون لأنفسهم عن ملجأ يلجئون إليه ومأوى يأوون فيه بعد النكبات المتلاحقة ‏"‏في عهد التتار‏"‏ وبعد سقوط أكبر دولتهم سقوطا نهائيا، وهي الدولة العباسية، فلم يجدوا أمامهم غير مصر وبلاد الشام، حيث أسس المماليك لهم وأقاموا لأنفسهم سلطانا، فقد عمل المماليك على رد طغيان التتار، وما وقف سلاطين المماليك وأمراؤهم المواقف تلك، إلا أنهم مسلمون معنيون بشئون دينهم مطالبون بدفع الأذى عنه‏.‏

فتوجهت أنظار المسلمين إلى مصر ولفتوا قلوبهم وأرواحهم إلى القاهرة باعتبارها عاصمة جديدة‏.‏

وبذلك كله اكتسبت مصر مكانا في الحياة جديدا، لذلك انتقل النشاط العلمي من العراق وبغداد إلى مصر وقاهرتها، ونشرت القاهرة زعامتها العلمية وقيادتها الأدبية على البلاد الإسلامية تقريبا زهاء هذه القرون الثلاثة التي عاشت فيها دولة المماليك‏.‏

عوامل نشاط الحركة العلمية‏:‏

تنقسم العوامل إلى خارجية وداخلية‏.‏‏.‏‏.‏ ونعني بالعوامل الخارجية ما وقع منها في خارج مثل ولم يكن لمصر ولا لأهلها يد في تدبيرها‏.‏

والداخلية‏:‏ نعني بها ما وقع منها داخل مصر، وكان لأهلها يد في تدبيرها‏.‏

العوامل الخارجية‏:‏

وإيجازها فيما يلي‏:‏

1- وقوع كثير من البلاد الإسلامية في يد المغول، فغطى سيل التتار من أواسط آسيا إلى الشام، فكان مسرحا للنزاع العنيف بين دول التتار والمماليك، فالتف المسلمون حول من يحافظون عليهم من سلاطين المماليك، وعملوا على تدعيم ملكهم، ومن أهم وسائل تدعيم الملك إحياء العلوم والمعارف‏.‏

2- قتل العلماء وإتلاف الكتب العلمية، وعلى أثر ذلك فر من فر من العلماء من وجه التتار، أو أنف الإقامة في ظلهم واستقر بهم المقام في كف سلاطين مصر‏.‏

3- وفود العلماء والأدباء إلى مصر والشام، ومن هؤلاء ابن مالك الأندلسي وابن خلدون وغيرهما‏.‏

4- زوال الخلافة العباسية‏,‏ فاتجهت الأعين إلى مصر حيث كانت مركزا للخلافة‏.‏

العوامل الداخلية‏:‏

1- غيرة السلاطين والأمراء‏:‏ وقد تجلت هذه الغيرة منهم في كفاحهم للتتار ومحاربتهم للفرنجة‏.‏ حتى ردوا هؤلاء وهؤلاء عن مصر والشام والبلاد المقدسة، وهذه النزعة من دأبها أن توقظ أمثالها في نفوس العلماء وتدفعهم إلى رفع راية التعليم والتأليف ومواصلة البحث والاطلاع‏.‏

2- تعظيمهم لأهل العلم‏:‏ فقد أقاموا للعلماء وزنا، ولا ريب أن هذا التعظيم له الأثر المباشر في نفوس العلماء على أن يظلوا حريصين على الشريعة، وأن يبثوا هذه الروح في نفوس طلابهم‏.‏

3- شعور العلماء بواجبهم وتنافسهم في أدائه‏:‏ فكان لهذا التنافس الشديد الأثر المفيد في إحياء العلوم، وبخاصة في ميدان العلم والتأليف‏.‏

4- انصراف العناية إلى اللغة العربية‏:‏ ولا شك أن مما عاون أهل العلم في تلك الآونة عناية السلاطين باللغة العربية التي اضطرتهم الظروف إليها اضطرارا، فأطلقوها تجري كما شاءت لها الأقدار في ضبط أمور الملك والسياسة والقضاء والعلوم، وذلك لعجز لغتهم التركية أو الجركسية عن أداء ما يتطلبه الملك الواسع من ضبط وأمن وربط، ونشر تعليمات وبعث مراسلات وكتابة‏.‏

5- إنشاء دور التعليم ونظامها‏:‏ لا شك أن إنشاء دور التعليم يعتبر سببا أساسيا وحيويا لتنشيط الحركة العلمية، لما تضمنه من مدرسين وطلاب‏.‏

وسأذكر هنا على سبيل المثال بعض المدارس التي بنيت في عهد المماليك أو ظلت مزدهرة إلى العصر‏:‏

أ- المدرسة المعزية‏:‏ عمرها السلطان عز الدين أيبك الجاشنكير أول ملوك البحرية، وذلك عام 654هـ‏.‏

ب- جامع القلعة‏:‏ أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون عام 718هـ وجعل فيه درسا وقراء‏.‏

جـ- مدرسة السلطان حسن‏:‏ أنشأها السلطان الناصر حسن بن قلاوون، ابتداء من عام 757هـ‏,‏ واستمر العمل فيها ثلاث سنوات‏.‏

د- المدرسة المؤيدية‏:‏ هي الجامع المعروف بجوار باب زويلة أسسها المؤيد شيخ المحمودي وانتهت عمارتها عام 819هـ‏.‏ وغير ذلك من المدارس والخوانق والزوايا‏.‏

6- رصد الأوقاف على هذه المدارس والإحسان إلى أهلها، حيث إنه لا يمكن لمنشأة من المنشآت العامة أن تبقى دون أن توجه إليها عناية ورعاية‏.‏

ولا ريب في أن وجود دور الكتب العامة أو الخاصة له الأثر المحمود في النهوض العلمي ونشاط حركة التأليف‏.‏‏.‏‏.‏ ونذكر فيما يلي بعض دور الكتب التي عرفت في العصر المملوكي نقلا عن المقريزي ج4 من خططه‏:‏

أ- خزانة كتب المدرسة الظاهرية البيبرسية‏:‏ التي أنشأها الظاهر بيبرس عام 662هـ، وكانت تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم‏.‏

ب- خزانة الكتب بجامع الحاكم بأمر الله‏:‏ وهي التي زوده بها الأمير بيبرس الجاشنكير عام 703هـ‏.‏

ج- خزانة الكتب بالمدرسة الناصرية‏:‏ التي بدأها كتبغا وأكملها الناصر قلاوون عام 703هـ‏.‏

د- خزانة الكتب بجامع الحظيري ببولاق‏:‏ التي زوده بها منشئه الأمير عز الدين إيدمر الحظيري عام 737هـ‏.‏

هـ- خزانة الكتب بجامع المؤيد‏:‏ قال المقريزي عنه‏:‏ ‏"‏نزل السلطان -أي المؤيد- في 20 محرم عام 819هـ إلى هذه العمارة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

وغير ذلك من خزانات الكتب‏.‏

7- العناية باختيار العلماء‏:‏ وقد عني السلاطين والأمراء ومنشئو المدارس باختيار علمائها الذين يشرفون على أمورها، وأساتذتها الذين يتولون التدريس فيها وغير التدريس، فانتخبوهم من بين الأفذاذ ذوي الشهرة المعروفين بالعلم والفضل‏.‏

وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال جانبا من هؤلاء الذين حملوا أعباء النهوض العلمي، وحافظوا على التراث الديني واللغوي في هذه الحقبة القاسية من تاريخ مصر فأسدوا إليها يدا بيضاء‏:‏

أ- ممن تولى التدريس بالمدرسة الصلاحية في عصور مختلفة وولي أمرها، شمس الدين ابن اللبان شيخ المرادي، وبرهان الدين بن جماعة، وتقي الدين بن دقيق العيد وغيرهم‏.‏

ب- ممن تولى التدريس بالمدرسة الحزومية‏:‏ المنشأة بعد عام 750هـ الشيخ بهاء الدين بن عقيل مدرسا للفقه‏.‏

جـ- ممن تولى التدريس بالمدرسة الناصرية‏:‏ التي أنشأها العادل وأكملها الناصر بن قلاوون، القاضي زين الدين عليّ بن مخلوف المالكي لتدريس فقه المالكية‏.‏

8- تشجيع المؤلفين‏:‏ حيث إن العلماء قد وجدوا كل ضرب من ضروب التشجيع على المضي قدما في الناحية العلمية ففتحت لهم المدارس وأجريت لهم المرتبات، وأغدقت عليهم النعم الوفيرة إلى غير ذلك، وبذلك قد وجدوا ما يشجعهم على المضي في التأليف والتدوين والتصنيف‏.‏

9- تنافس العلماء‏:‏ التنافس هنا ليس المراد منه تنافسهم في سبيل العلم وفي سبيل التأليف ومباراتهم بالمناظرات والمحاضرات وما إليها مما يكون ذا أثر كبير وبديع في الحركة العلمية، إنما التنافس هو في سبيل بلوغ المراكز العالية التي خصصت لهم في القضاء وفروعه، وفي مشيخة الإسلام وفي مشيخة المساجد والخوانق‏,‏ سواء أكان الإغراء بالرواتب المادية أم المنزلة الأدبية التي يصلون إليها بمصاحبة السلطان‏.‏

وتنافس العلماء من هذه الناحية كان من وسائل تشجيع الحركة العلمية2‏.‏

نتائج نشاط الحركة العلمية‏:‏

تنحصر هذه النتائج في ثلاثة أمور‏:‏

أولا‏:‏ وفود الطلاب إلى دور التعليم

لا شك أن افتتاح المدارس وتعيين العلماء فيها للتدريس والعناية باختيارهم وإجراء الرواتب على الطلاب من شأنه أن يجذب إليها قلوب الطلاب‏.‏‏.‏‏.‏ ووفد الطلاب إلى دور التعليم من مصر وغيرها إذ أصبحت مصر أهم كعبة علمية إسلامية يحج إليها محبو العلم وطلابه‏.‏

ثانيا‏:‏ كثرة العلماء والأدباء

إذ زخر العصر بالعدد الوافر من علماء المذاهب الأربعة والأصوليين والنحويين واللغويين والأدباء والمؤرخين وغيرهم‏.‏

وقد نشط كثير من هؤلاء العلماء إلى التأليف والفتوى والتدريس والوعظ، وشغلوا مناصب القضاء والكتابة، وشغفوا بالمحاورات والمناظرات‏.‏

وعن المناظرات‏.‏ قال صاحب الدرر الكامنة 3/ 803 في ترجمة تاج الدين محمد المراكشي المولود في القاهرة‏:‏ ‏"‏إنه تناظر هو والفخري فكان من حضر لا يفهم ما يقولانه لسرعة عبارتهما‏"‏‏.‏

ثالثا‏:‏ نشاط الحركة التأليفية

هذه الحركة من أهم نتائج النشاط العلمي إذ هي الثمرة الخالدة والأثر الباقي وكانت مصر مفخرة بسببها‏.‏

وأتناول هنا بالكلام بعض العلوم المختلفة على سبيل المثال مركزا على العلوم اللغوية ‏"‏النحو والصرف‏"‏ حيث إني بصدده، وسأجمل القول فيما عداها، ولم نعن في هذا المقام إلا بالمؤلفين الذين اتصلوا بمصر والشام في ذلك العصر اتصالا ما، مثل الاستيطان أو الزيارة أو الوظيفة‏.‏

المؤلفات‏:‏

لا نبالغ إذا قلنا‏:‏ إن مؤلفات علماء مصر في خلال عصر المماليك -وهو أقل من ثلاثمائة عام- تبلغ عدة آلاف، وحسبنا دليلا على ما نقول أن بعضهم عرف عنه أنه وحده ألف مئات من الكتب والرسائل كالسيوطي، فقد قيل‏:‏ إن مؤلفاته أربت على ستمائة، وكابن تيمية الحراني، فقد قيل‏:‏ إن مؤلفاته أربت على خمسمائة، وغير ذلك‏.‏

وبلا ريب كانت هذه المؤلفات تملأ دور الكتب المصرية في العصر المذكور بجوار دور التعليم‏,‏ فلما جاء الفتح العثماني عام 923هـ وأزالوا حكم سلاطين المماليك نهبوا ذخائر البلاد ونفائسها وفي مقدمتها تلك المؤلفات‏.‏ وحملوا ما حملوا إلى عاصمة بلادهم وجملوا بها دور كتبهم، ولم يبق في مصر إلا صبابة من تلك الكأس المليئة مبعثرة هنا وهناك، وكانت هذه الصبابة هي النواة لإنشاء دار الكتب المصرية بالقاهرة في عهد الخديو إسماعيل‏.‏

وبعد، فلنعد إلى هذه المؤلفات المصرية وعصر تأليفها وهو العصر المملوكي، وسأذكر أمثلة مقتصرة حيث المقام لا يتسع‏.‏

ومن المؤلفات التاريخية‏:‏

1- وفيات الأعيان لابن خلكان المتوفى عام 681هـ وبه أكثر من ثمانمائة ترجمة‏.‏

2- الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء الصعيد‏,‏ تأليف كمال الدين جعفر بن ثعلب الأدفوي المتوفى عام 748هـ وهو معجم حافل به أكثر من 590 ترجمة لأعلام الصعيد من معاصري المؤلف‏.‏

3- تاريخ النحاة‏,‏ مؤلفه تاج الدين أبو محمد أحمد بن عبد القادر محمد بن مكتوم المتوفى عام 749هـ‏.‏

4- الوافي بالوفيات، وهو لصلاح الدين الصفدي المتوفى عام 764هـ وهو في نحو خمسين مجلدا‏.‏

5- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني، وهو أربعة أجزاء تحتوي على أكثر من ألف ترجمة لأعلام هذه المائة مرتبة حسب الحروف، وغير ذلك‏.‏

تاريخ الخطط والآثار‏:‏

وهي المؤلفات التي تحدثت عن البلاد والمدن والمواضع، ومن مؤلفات‏:‏

1- الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة‏:‏ مؤلفها محيي الدين عبد الظاهر المتوفى عام 692هـ‏.‏

2- نهاية الأرب في معرفة كلام العرب‏:‏ مؤلفه شهاب الدين القلقشندي المتوفى عام 821هـ‏.‏

3- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‏:‏ مؤلفه تقي الدين المقريزي المتوفى عام 845هـ وهو أربعة أجزاء‏.‏

المؤلفات الدينية‏:‏

قد سرت النزعة الدينية والروح الإسلامية في أرجاء البلاد واعتنى العلماء بالتأليف، ومن ذلك على سبيل المثال‏:‏

1- الروضة‏:‏ مؤلفه محيي الدين النووي المتوفى عام 676هـ‏.‏

2- الشامل‏:‏ مؤلفه بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز المتوفى عام 805هـ‏.‏

3- الفتاوى المصرية‏,‏ لتقي الدين بن تيمية الحراني المتوفى عام 728هـ، وهو سبعة مجلدات وغير ذلك من الكتب الكثيرة‏.‏

تفسير القرآن الكريم‏:‏

1- تفسير القرآن الكريم‏:‏ مؤلفه عبد العزيز أحمد بن سعد الديريني المتوفى عام 697هـ‏.‏

2- إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب‏,‏ لأثير الدين بن حيان شيخ المرادي‏,‏ المتوفى عام 745هـ‏.‏ وغير ذلك من الكتب‏.‏

القراءات‏:‏

1- شرح الشاطبية‏:‏ مؤلفه الحسن بن أم قاسم المرادي المتوفى عام 749هـ‏.‏

2- المقدمة الجزرية‏:‏ وهي منظومة في علم التجويد من وضع شمس الدين الجزري المتوفى عام 833هـ‏.‏ وغير ذلك‏.‏

مؤلفات عربية‏:‏

بنفس الروح التي أثارت الجد في نفوس علماء الدين، ثار الجد في نفوس علماء العربية بجميع فنونها، ونبغ فيها علماء أجلاء منهم من يعتبر إماما في فنه وقدوة في مادته، والعربية كانت ولا تزال وستبقى، أهم الأدوات لفهم الدين وتوضيح مسائله، بينهما من الوشائج ما لا تستطيع الأيام فصله‏,‏ ومن ثم لم تكن لعلماء اللغة تلك المنازل المرموقة التي سما إليها علماء الدين، لذلك لم يكن غريبا أن يحرص العلماء على أن ينبغوا أولا في علوم الشريعة، ثم يفيئوا إلى اللغة وفنونها فيتعهدوها بالعناية‏.‏

على أن هناك بعضا من العلماء غلب عليه الاشتغال باللغة وفنونها، لرغبة فيها وولوع فأجاد وأفاد، وسجل لنفسه بما ألفه ودونه من مسائلها سجلا خالدا‏.‏

كتب النحو والصرف‏:‏

ولعل النحو والصرف في مقدمة فنون العربية التي حظيت من العناية بنصيب أوفر، فقد وضعت فيهما أسفار قيمة، وعرف بهما رجال أفذاذ‏.‏

ونحن لا ننكر أن نحويي هذا العصر، لم يأتوا بجديد ممتع ولا بمبتكر رائع، وقصارى جهودهم بذلت في توضيح مسائل النحو وتوجيه قواعده، والاستدلال لها مع عرض الآراء المتناقضة أحيانا، والموازنة بينها وترجيح أحدها أحيانا أخرى‏.‏

ونحا بعضهم إلى وضع المتون ثم إلى شرحها ثم إلى شرح هذا الشرح أو اختصاره، وذلك على نمط مما كان يفعل علماء الدين بكتب الفقه، وزادت التحشية على المؤلفات، والاستدراك عليها ونحوه، حتى نتج من ذلك كله نتاج وفير في هاتين المادتين‏:‏ النحو والصرف‏.‏

غير أننا لا نرى مناصا من التنويه بأن بعضهم كانت له في بحوثه شخصية وقوة تشعرنا بأنه كان حسن الذوق لمادته عميق الفهم، كامل الإلمام، دقيق الملاحظة والموازنة، جديد التوجيه والتعليل‏.‏

وأفضل الأمثلة لذلك‏:‏ ابن هشام المصري‏.‏ ذلك العلامة الذي قال فيه ابن خلدون‏:‏ ‏"‏ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه‏"‏‏.‏

ونشير في هذا المقام إلى جالية علماء الأندلس بالمشرق وعلى رأسها جمال الدين بن مالك الأندلسي الذي وفد إلى بلاد الشام في عهد الملك الظاهر بيبرس، وتتلمذ له كثيرون من أبنائها، وانتشرت بينهم كتبه ومنظوماته، كالألفية والتسهيل وكلاهما في مقدمة الكتب التي اتخذت محورا للتأليف‏.‏

وكذلك أبو حيان الأندلسي‏,‏ فقد وفد على مصر وتتلمذ لبعض رجالها وتتلمذ له بعض رجالها كابن أم قاسم المرادي، وأفادوا منه كما أفاد منهم‏.‏

وإليك بعضا من المؤلفات والرسائل في هذين الفنين على سبيل المثلا‏:‏

1- الألفية والتسهيل والكافية الشافية وهي أرجوزة في أكثر من 2750 بيتا لخص منها ألفيته وسبك المنظوم وفك المختوم، ولامية الأفعال لابن مالك المتوفى عم 672م‏.‏

2- شرح التسهيل، وشرح الألفية، والجنى الداني في حروف المعاني، ورسالة في الجمل التي لا تكون لها محل من الإعراب، وشرح باب وقف حمزة وهشام على الهمزة من الشاطبية، وشرح المقصد الجليل في شرح علم الخليل، والمفيد وهو شرح عمدة المفيد وعدة المجيد في التجويد، وشرح الاستعاذة والبسملة، لبدر الدين وهو ابن أم قاسم حسن بن قاسم المرادي المتوفى عام 749هـ‏.‏

3- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وقطر الندى وبل الصدى، وشذور الذهب، وأوضح المسالك والجامع الصغير، والروضة الأدبية، وموقد الأذهان، والإعراب عن قواعد الإعراب، لابن هشام المصري المتوفى عام 761هـ‏.‏

4- المساعد في شرح التسهيل، وشرح الألفية، لبهاء الدين بن عقيل المتوفى عام 769هـ‏.‏

5- شرح الألفية ولم يكمله، وشرح التسهيل، لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي المتوفى عام 777هـ‏.‏

6- شرح الألفية‏,‏ لشمس الدين بن الصائع محمد بن عبد الرحمن بن عليّ الزمردي المتوفى عام 777هـ‏.‏

7- شرح الألفية وشرح التسهيل، لناظر الجيش محب الدين محب محمد بن يوسف بن أحمد بن عبد الدائم الحلبي المتوفى عام 778هـ‏.‏

8- شرح ألفية ابن مالك، لأكمل الدين البابرتي المتوفى عام 786هـ‏.‏

9- حاشية على مغني اللبيب، لبدر الدين الدماميني المتوفى بالهند عام 827هـ‏.‏

10- الألغاز النحوية، والتصريح بمضمون التوضيح، وشرح الآجرومية، وإعراب الألفية، لخالد الأزهري الجرجاوي المتوفى عام 905هـ‏.‏

11- البهجة المرضية في شرح الألفية، الأشباه والنظائر في النحو، والفريدة في النحو والصرف والخط والنكت على الألفية والاقتراح في أصول النحو، وهمع الهوامع، وشرح شواهد المغني‏.‏‏.‏‏.‏ لجلال الدين السيوطي المتوفى عام 911هـ1‏.‏